سألنا جماعة من الأدباء بيانَ ما أثنى به الأعرابيّ على بعلته , وذكروا أنهم قرأوها في افتتاحية " البصائر " قريبة العهد , فما فهموا مرجعَ إشارتها , وسألوا عن البعلة – مؤنث البعل - هل هي فصيحة ؟
أما البعلة فهي فصيحة , ومن قرأ عرف , وأما ما أثنى به الأعرابي على بعلته , فهو إشارة إلى قوله يخاطب زوجته :
أثنى عليّ بما علمت فإنني ... مثنٍ عليك بمثل ريح الجوْرب
وريحُ الجورب من الرجل العرقة التي تمكث فيه أياماً , ولا تزور الماءَ إلا لماماً , وهو ( طيب عاطر الأنفاس ) فالثناء بمثله ثناء بأخبث شيئ في الدنيا , ولم يبق من استيفائه لشرائط المكروه إلا أن يصدر عن ذي فم أبخر ...
بهذه المناسبة – وإن كانت مستقذرة – أكرّر النصيحة لأدبائنا الكسالى , وأجعلُ هذه النصيحة غسولا للجورب ورجله , أن لا يقنعوا من الأدب بما يلقاهم منه في أيام الطلب في الكتب المقرّرة , فإن ذلك القدر النزر لا يربي ملكة , ولا يصقل ذهناً , ولا يكوّن أديباً , إنما يربي الملكات الأدبية الصحيحة ويقوّمها – الإدمان , إدمان القراءة المتأنية المتدبرة , لكتب الأدب الحرّة , الأصيلة , والاستكثارُ من حفظ الشعر واللغات والأمثال , ومعرفة مواردها ومضاربها , والتنبيه لمواقع استعمالها من كلام البلغاء , من شعراء وخطباء وكتّاب , ثم ترويض القرائح والألسنة والأقلام على المحاذاة , ذلك أدنى أن تستحكم الملكة , وتنقاد القريحة فتجري الأقلام على سداد , ويمدّها الفكر من تلك المعاني بأمداد , وتوضع الكلمات في الجمل , في موضع اللآلئ من العقد , وما جاء حسن العقد منظوماً , إلا من حسنه منثوراًَ , ثم تكون الحِكم والأمثال والنكت كفواصل الجمان , في العقود الثِّمان.
(عيون البصائر : 665 )